الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (16- 28): {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)}.التفسير:قوله تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً} هو دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى هؤلاء القاسطين الذين يسرعون إلى الهلاك بخطى حثيثة، حيث يكونون حطبا لجهنم- أنه دعوة إليهم بالرجوع إلى اللّه والاستقامة على طريق الحق، والإيمان باللّه ورسوله، واليوم الآخر.وقوله تعالى: {لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} هو وعد منه سبحانه لأهل الإيمان بأنه لا يفوّت عليهم ما يطلبون في الدنيا من خير، فإن الإيمان باللّه، والعمل للآخرة، لا يعوّق من سعى الإنسان ولا يعطل من جهده في تحصيل الرزق.فالرزق بيد اللّه، وأنه سبحانه لا يعاقب المؤمنين بالتضييق عليهم في الرزق، وإنما هو يرزقهم بما هو أصلح لهم وأنفع، وأنه إذا كان من المؤمنين من يرى أنه مضيق عليه في رزقه، فذلك ابتلاء من اللّه سبحانه وتعالى له، وأن هؤلاء الذين لا يرضون من الإيمان إلا أن يكون معه سعة في الرزق وكثرة في الأموال والأولاد- هؤلاء لو آمنوا لأفاض اللّه سبحانه عليهم من الرزق، ولأرسل السماء مدرارا عليهم، حيث يكون من وراء ذلك الخصب والنماء، ووفرة المال والمتاع، ولكن هذا الرزق هو فتنة لهم، أي امتحان وابتلاء.. فإن هذا الرزق عبء، قد يؤودهم حمله، وقد يقصم ظهورهم، إذا هم لم يحسنوا سياسته، ولم يحفظوا أنفسهم من إغرائه، ويؤدوا حقّ اللّه فيه.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [96: الأعراف].هذا، وقد قرن اللّه سبحانه الإيمان بالتقوى، وذلك ليكون للإيمان هذه الثمرة الطيبة التي يبارك اللّه بها الرزق، وينمّيه، ويملأ قلوب المتقين أمنا وسكينة ورضا.فالتقوى، إذا خالطت قلب إنسان، رفرفت عليه أعلام السلام، وإذ دهرت فيه مغارس الخير، فوجد القليل كثيرا، والشرّ خيرا، والفقر غنى.. إنه في رضا دائم، وفى حبور لا ينقطع.. فمن استقام على طريق الحقّ، فهو في عيشة راضية، وفى سعادة غامرة، وإن لم يكن بين يديه من حطام الدنيا إلا لقيمات، يتبلّغ بها.. إنه يجد من نور الإيمان، ومن ثمرات التقوى، أنه قد حاز الخير كله، وحصل من الحياة أكرم جواهرها، وأغلى ما يعرض في سوقها.وقوله تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً} إشارة إلى أن من يبتعد عن اللّه، ويأخذ طريقا غير طريق الهدى، فإنه لن يجد الأمن والسلام أبدا، ولو اجتمع بين يديه ما يشاء من مال وبنين.. بل إنه سيتقلب في أحوال شتّى من القلق والهمّ، ويتنقل من سيئ إلى أسوأ، حيث تنمو هذه العلل، وتتضاعف هذه الآلام، مع الزمن، حتى تبلغ غايتها، حين يذهب كل شيء كان في يده، من قوة، وشباب، ومال، وأصحاب، ثم يقطع الموت في نهاية الأمر، ما بينه وبين كل ما معه من أسباب، وإذا هو في موقف الحساب والجزاء، فيساق إلى مصيره المشئوم، ثم يلقى به في نار جهنم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} [124: طه].وفى التعبير عن أخذ المعرض عن ذكر ربه بالعذاب، وتدرجه فيه صعدا- في التعبير عن هذا بقوله تعالى: {يسلكه} إشارة إلى اتصال هذا العذاب، وأنه في اتصاله وتعدده أشبه بحبات العقد، ينتظمها سلك واحد.. فهو- أي المعرض عن ذكر ربه- في دائرة مغلقة من العذاب، يظل يدور فيها، دون أن يستطيع الإفلات منها، أو الخروج عنها، مع تدرجه في العذاب، وتنقله فيه من سيئ إلى ما هو أسوأ، حتى يلقى به في العذاب الأليم.. وفى هذا ما يشير إلى أن المعرض عن ذكر ربه، هو في عذاب دائم متصل، في الدنيا والآخرة، وأنه ينتقل من عذاب الدنيا، إلى عذاب الآخرة: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [33: القلم].قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.المراد بالمساجد- واللّه أعلم- هو مواطن السجود في الأرض.. فحيث كان مكان في هذه الأرض، يصلح للسجود، ووضع الجباه عليه، فهو للّه سبحانه وتعالى، أي هو ملك للّه، الذي خلق السموات والأرض.. فالسجود في ملك اللّه لغير اللّه، كفر مبين، وضلال عظيم.. إنه عدوان على اللّه، ومحادّة له.ويجوز أن تكون المساجد، جمع مسجد اسم آلة، وهو العضو المشارك في عملية السجود.. ويكون المراد بالمساجد هنا، أعضاء السجود، وهى عظام الكفّين، وأطراف القدمين، وعظما الركبتين، وعظم الجبهة، وهى سبعة عظام، كما يشير إلى ذلك قول الرسول الكريم: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم».فهذه الأعضاء- أعضاء السجود، هي للّه، وهو سبحانه الذي خلقها، فلا ينبغى أن يسجد بها لغير خالقها.قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}.عبد اللّه، هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفى إضافته- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى اللّه سبحانه وتعالى بصفة العبودية، تكريم وتشريف له، ورفع لمقامه الكريم عند ربه، وأنه عبد اللّه، الخالص العبودية للّه، والمثل الكامل لهذه العبودية، التي تحققت فيه وحده، فانفرد بها في هذا المقام، فحيث أضيف عبد إلى اللّه من غير ذكر اسمه، فالمقصود هو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.وقد أضاف اللّه سبحانه وتعالى كثيرا من عباده المكرمين إليه بلفظ العبودية، ولكنها لم تكن إضافة مطلقة، بل كانت مقيدة بذكر اسم هذا العبد المضاف إلى اللّه، كما يقول سبحانه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [2: مريم] وكما يقول تبارك اسمه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} [41: ص] ويقول جل شأنه: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ} [45: ص] وفرق كبير في مقام التكريم والتشريف بين إضافة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعبودية إلى ربه إضافة مطلقة، وبين قيد هذه الإضافة بالاسم الدال على صاحبها، وإن كانت تلك الإضافة مما يلبس صاحبها تاج الكمال وينزله أعلى منازل الرضوان.. ولكن فوق هذا المقام الكريم العظيم مقام، ينفرد به رسول اللّه محمد وحده.وقد أضيف رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- عبدا لربه، إضافة مطلقة، على صور متعددة، فتارة يضاف إلى ضمير الذات العلية في مقام الغيبة، كما في قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [1: الإسراء] وتارة يضاف إلى ضمير الذات في مقام الحضور، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} [41: الأنفال] وتارة يضاف إلى اسم الذات كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (19: الجن) ولا شك أن في تنوع هذه الإضافات زيادة تشريف وتكريم، فوق هذا التشريف والتكريم، حيث يضيف الحق سبحانه وتعالى عبده، متجليا عليه بذاته ظاهرا، وباطنا.وبهذا المقام العظيم استحق الرسول الكريم، أن يصلّى عليه ربه، وأن تصلى عليه ملائكة ربه، وأن يدعى كل مؤمن ومؤمنة باللّه، للصلاة عليه:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [56: الأحزاب].. فصلى اللّه عليك يا رسول اللّه وعلى آلك وصحبك، وسلم تسليما.وقوله تعالى {يَدْعُوهُ} أي يدعو ربه، وهو حال من الفاعل في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ} وقوله تعالى: {كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي كاد المشركون أن يكونوا لبدا على النبيّ، أي جمعا واحدا عليه، يجتمع بعضهم إلى بعض في مساندة وتلاحم، كما يجتمع اللّبد، وهو الشعر الكثيف، حيث يكون كتلة واحدة مثل لبد الأسد المجتمع على صدره، وحول عنقه، ومنه قوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً} [6: البلد] أي كثيرا مجتمعا بعضه إلى بعض.وفى هذا التصوير لاجتماع المشركين، وتكتلهم على الوقوف في وجه النبيّ- في هذا ما يشير إلى أمور:أولها: أن هذا المجتمع الذي يضم المشركين بعضهم إلى بعض في مواجهة النبيّ- ليس له من داعية معقولة، وإنما هو صادر عن كائنات ميتة، لا حسّ ولا إدراك لها، إنها تجتمع وتتفرق، بيد من يجمعها أو يفرقها، كما يجتمع الشعر ويتفرق في يد من يجمعه، أو يفرقه.. والشيطان هنا هو اليد التي تجمع هؤلاء المشركين، أو تفرقهم حسب مشيئته فيهم.وثانيها: أن هذه الجموع الكثيفة المحيطة بالنبيّ من المشركين، إنما هي على كثرتها غثاء كغثاء السيل، وأنها لا تلبث أن تعر من وجه الحق إذا طلع عليها وضربها الضربة القاضية.. إنها كائنات من مخلفات الحياة، ليس لها جذور تمدها بالغذاء، وتمسك عليها الحياة.. وإنه سرعان، ما تجف وتتطاير، فتذهب بها الريح، وترمى بها في كل وجه.وثالثها: أن هذا اللبد المجتمع حول النبيّ، هو أشبه باللبد المجتمع حول رقبة الأسد، فهو شيء عارض، لا يؤثر في ذاتية الأسد، وأنه يتطاير في كل لحظة ليخلى مكانه لغيره.ورابعها: أن هذا اللّبد المجتمع حول النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن كان في هذا الوقت لبدا يشوكه، ويؤذيه، فإنه سيتحول عما قريب إلى لبد يحميه، ويدفع عنه كل أذى.. وهكذا فإنه بعد سنوات قليلة اجتمع للنبىّ من هؤلاء المشركين جند اللّه، المدافعون عن دينه، والمجاهدون في سبيله، وهم المهاجرون، الذين كانوا مع إخوانهم الأنصار الكتيبة الأولى حملت راية الإسلام. وركزتها في أعزّ، وأمكن مكان، ودافعت عنها بالأرواح والأموال، وفدّتها بالأبناء والآباء.قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}.هو توجيه من اللّه سبحانه للنبىّ الكريم، بما يلقى به قومه الذين كادوا يكونون عليه لبدا.. فهو إذ يراهم وقد صاروا عصبا عليه، قد اجتمعوا على عداوته والكيد له- إذ يراهم على تلك الحال، يقول لهم: {إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}.فهذه هي دعوتى.. فماذا تنكرون منها؟وماذا تنكرون من الذين يعبدون ما أعبد؟ إنها دعوة لا إكراه فيها، فمن قبلها، فذلك من شأنه هو، ومن أعرض عنها، واتخذ سبيلا غيرها، فذلك من شأنه أيضا.. فلم إذن تصدّون الناس عن سبيل اللّه؟ ولم لا تتركون الناس وما اختاروا، كما تركتم أنتم وما اخترتم؟قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً}.هو من قول النبي المشركين، فهو إذ يعبد ربّه، ويوجه إليه وجهه، وحده، لا شريك له، فإنه لا يملك المشركين ضرّا، ولا رشدا.. وإنما ذلك إلى اللّه وحده. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} [125: الأنعام].وفى مقابلة الضرّ بالرشد، إشارة إلى أن الضر لا يكون إلا عن متابعة الهوى، واتباع أهل الضلال، كما أن الخير، لا يكون إلا من ثمرات الهدى، والاستقامة والتقوى.. وهكذا تقع المقابلة بين الضرّ والرشد، وقوعا يشمل الظاهر والباطل جميعا.فالضرّ، ظاهر، يخفى وراءه الهوى، والضلال، والشرك.. والرشد باطن، يفوح منه طيب الخير، وتهمى من سمائه غيوث الرحمة والإحسان.أو بعبارة أوضح نقول: إن الضرّ فرع غاب أصله، والرشد أصل غاب فرعه.. فالضرّ ثمر كريه مرّ حاضر، لا تكاد تقع العين عليه حتى تعرف الشجرة التي أثمرته.والرّشد، شجرة طيبة مباركة.. يكفى أن تقع العين عليها فتعرف الثمر الطيب الكريم، الذي تجود به.. أو نقول: إن المقابلة هنا بين المسبب، وهو الضرّ، وبين السبب لما يقابله وهو الرشد الذي مسبّبه الخير.وهكذا في كلمتين، يتجلى وجه من وجوه إعجاز القرآن.. ففى المقابلة بين هاتين الكلمتين: الضرّ، والرشد، تتحرك المعاني المولدة منهما، ويقابل بعضها بعضا، فتتآلف منها صورة معجزة، الكلمة القرآنية، التي لا ينفد لها عطاء.فعلى وجه الضرّ تلوح معالم الشرك، والكفر، والضلال، وتتراقص شياطين الغواية، والإثم.وعلى وجه الرّشد، تتألق عرائس الخير، وتتهادى حور الجنان وولدانها.وهنا سؤال، وهو: لما ذا آثر النظم القرآنى، المقابلة بين الضرّ والرشد، على المقابلة بين الكفر، والخير، أي المقابلة بين مسبب وسبب، دون المقابلة بين مسبّب ومسبب، أو بين سبب وسبب؟ونقول- واللّه أعلم- إنه في جانب الضرّ أغفل السبب الوارد منه هذا الضرّ، وهو الكفر والشرك، وأقيم المسبّب- وهو الضرّ- مقامه، ليرى الشرك والكفر في ثمرتهما المرّة النكدة التي أثمراها.وأما في جانب الرّشد، فقد أغفل المسبب عنه، وهو الخير، والنعمة والسلامة والعافية، وما أشبه هذا مما يسعد به الإنسان في الدنيا والآخرة، وأقام السبب مقامه، وذلك للتنويه بالرّشد في ذاته، وأنه وحده خير، وخير كثير، وأنه يجب أن يكون مطلوبا لذاته، غير منظور إلى الخير الذي يجيء منه.. إنه في ذاته خير، فلا حاجة إلى النظر فيما وراءه.والنبىّ- وهو رسول اللّه، والحامل لرسالته، والداعي إليها- هو في قبضة اللّه، وتحت سلطان مشيئته.. وأنه لو أراد اللّه ضرّه، فليس هناك من يدفع عنه هذا الضرّ، وليس له من ملتحد، أي ملجأ يلجأ إليه، فرارا من هذا الضرّ الذي هو رهن بمشيئة اللّه.إنه لا محاباة عند اللّه، حتى ولو لرسول اللّه- وإنما الناس عند اللّه بأعمالهم، وما هم عليه من إيمان وكفر، ومن تقوى وفجور.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [13: الحجرات] أي أشدكم خوفا من اللّه، ومراقبة له، واتقاء لحرماته.. ولما كان رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، هو أتقى الأتقياء، كانت منزلته عند اللّه أعلى المنازل وأكرمها، فهو مطمئن إلى ماله عند اللّه من مقام كريم، وأجر عظيم.قوله تعالى: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} هو مستثنى من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً} فهو بمعنى لا أملك لكم من اللّه شيئا، إلا هذا البلاغ الذي أبلغكم به من اللّه، وإلا هذه الرسالات التي أحملها إليكم في آيات اللّه.. فهذا هو الذي أملكه من اللّه لكم، بعد أن ملّكنى إياه.. وها هو ذا أعرضه عليكم، وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.. أما ما وراء هذا، فلا أملك لكم من اللّه شيئا منه، فلا أملك هداية لمن أضله اللّه، أو إضلالا لمن هداه اللّه.وفى جمع الرسالات مع أن رسالة الرسول واحدة، لا جمعا- في هذا إشارة إلى أن كل آية من آيات اللّه، هي رسالة من رسالات اللّه، إلى عباد اللّه، يرون في أنوارها، مواقع الهدى والرشاد، وإنه بحسب الإنسان العاقل أن يتلو آية من آيات اللّه، أو يستمع إليها، فيجد طريقه إلى الإيمان والهدى.. ولقد استمع الجن إلى آيات من القرآن الكريم فكان فيها هداهم ورشدهم.وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً}.هو تعقيب على قوله تعالى: إلا بلاغا من اللّه ورسالاته، فهذا البلاغ من اللّه، وتلك الرسالات المنزلة في آياته- هو مما بلغه الرسول إياهم، ودعاهم إلى تصديقه، والإيمان به، وأن من يعص اللّه، فلم يؤمن بآياته، ويعص الرسول، فلم يستجب له- فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا.. فذلك هو جزاء من يعصى اللّه ورسوله.وفى عود الضمير مفردا على اسم الشرط {من} في قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ} ثم عوده عليه جمعا في قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها أَبَداً} في هذا إشارة إلى أن العصيان لأمر اللّه ورسوله، هو عن استجابة لهوى الإنسان وحده، وأنه هو المسئول عن ركوبه هذا الطريق المهلك.أما المصير الذي يصير إليه هذا الإنسان، فهو مصير عام يلتقى عنده أهل الضلال جميعا، وهو النار.قوله تعالى: {حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} هو تهديد المشركين، وأنهم إذا كانوا في يومهم هذا، يعتزون بقوتهم، وكثرة عددهم، ويتسلطون على تلك القلة المستضعفة المؤمنة، ببغيهم وعدوانهم، ويجتمعون لبدا عليهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يوعدون فيه بهذا العذاب، حيث يرون أنه قد تخلّى عنهم كل ما كان موضع قوة وعزة لهم، وأنهم قد صاروا حطبا لنار جهنم.ويجوز أن يكون مما يوعدون به، هو ما تهددهم اللّه به من الهزيمة والخذلان في الدنيا، في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [45: القمر] وفى قوله تعالى: لنبيه الكريم: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ} [46: يونس].. وغير ذلك من الآيات التي أشارت إلى نهاية هذا الصراع القائم بين المشركين، والمؤمنين.. وأن النصر، والغلب والعزة ستكون للّه، ولرسوله، وللمؤمنين.ولقد رأى المشركون مصداق قوله تعالى: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} لقد رأوا ذلك رأى العين، يوم الفتح، حيث دخل النبي مكة على المشركين في عشرة آلاف من أصحابه، فانقبع المشركون، وزلزلت الأرض بهم، ثم جاءوا إلى النبي مقيدين بقيد المهانة والذلة، حتى أطلقهم الرسول الكريم بقولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»!قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} {إن} هنا نافية، بمعنى {ما}.أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين، إن هذا اليوم الذي توعدون به، والذي ستعلمون فيه أنكم أضعف ناصرا وأقل عددا- هذا اليوم لا أدرى متى هو؟.. أهو قريب، قد أظلكم، وأطلّ عليكم بوجهه، أم هو ممتد إلى ما يعلم اللّه سبحانه ويجعل له أمدا ينتهى عنده.وفى قوله تعالى: {يَجْعَلُ} بمعنى يقدّر، وفى التعبير عن التقدير بفعل المستقبل، إشارة إلى إخراج هذا التقدير من حيز العلم المكنون عند اللّه، إلى حيز الواقع والمشاهد، حيث يبدو الناس ما وعدوا به يوم ينتهى الأمد المعلوم عند اللّه لهذا اليوم.قوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي أن ربى هو عالم الغيب، فلا يعلم الغيب إلا هو، ولا يظهر، أي يطلع على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول.فقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ اللّه} هو استثناء من قوله تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً}.أي أنه سبحانه قد استأثر وحده بعلم الغيب، وأنه سبحانه لا يطلع أحدا على هذا الغيب إلا من ارتضى أي اختار من بعض رسله.و{من} في قوله تعالى: {مِنْ رَسُولٍ} للتبعيض، للإشارة إلى أنه ليس كل رسل اللّه يطلعهم اللّه على الغيب- وإنما يختار اللّه سبحانه من يشاء منهم، فيطلعه على ما يأذن لهم به من الغيب.. فإن الذي يوحيه اللّه سبحانه وتعالى إلى بعض رسله، هو من بعض هذا الغيب، حيث لا يعلم هذا الموحى به إلا الرسول.. كما أوحى اللّه سبحانه إلى نوح بغرق قومه، وكما أوحى إلى إبراهيم بهلاك قوم لوط. وكما أوحى إلى صالح بهلاك قومه بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.. فهذا من الغيب الذي أطلع اللّه سبحانه بعض رسله عليه.والرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان يعلم مما علّمه اللّه، كثيرا من الأحداث التي تقع على مسيرة دعوته، سواء أكان ذلك عن طريق الفهم الخاص لرسول اللّه بما ضمت عليه آيات القرآن من أسرار، أو كان هذا عن وحي خاص من اللّه سبحانه إلى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه.وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}.أي أن اللّه سبحانه لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على بعض الغيب، وذلك بما يقصّ عليه من أخبار إخوانه السابقين من الرسل، وما ووجهوا به من أقوامهم من سفاهات، وضلالات، وما احتملوا في سبيل تبليغ رسالة اللّه، من ضر وأذى.. فهذا هو الرصد الذي يسلكه اللّه من خلف الرسول، أماما يسلكه بين يديه، فهو إخباره بما سيقع له من بعض الأحداث ذات الشأن العظيم، على طريق مسيرته هو بدعوته.والرصد هو، الاستعداد، والترقب للأمر، والرصد يقال الواحد الراصد، والجماعة الراصدين، والشيء المرصود، أي المعد.والمراد بالرصد في الآية الكريمة- واللّه أعلم- هو المعالم المنصوبة بين يدى الرسول، ومن خلفه، مما يقصّه اللّه سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسول السابقين، والمعاصرين لهذا الرسول، وبما يطلعه عليه من بعض أنباء الغيب مما سيقع له على طريق دعوته.وهذا ما يشير إليه قوله تعالى مخاطبا النبي الكريم، بعد أن قص عليه قصة يوسف: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [102 يوسف].وقوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} [120: هود].وعلى هذا يكون الضمير في قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ} عائدا إلى الرسول، الذي أطلعه اللّه سبحانه على بعض الغيب، وأن هذا الرسول بما علم من أنباء الرسل من قبله، قد علم أنهم أبلغوا رسالات ربهم، وأنهم أدوا أمانة التبليغ على وجهها، غير عابئين بما يلقاهم في هذه السبيل من عنت وبلاء.. وفى هذا تثبيت الرسول في موقفه المواجه لقومه، وما يرمون به من منكر القول، وسفيه العمل.. لما يرى من إخوانه الرسل، وما أصابهم من أقوامهم.وقوله تعالى: {وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} معطوف على قوله تعالى: {أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ}.أي ويعلم الرسول أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، وأن اللّه قد أحاط بما كان لدى الرسل من طاقة صبر، وقوة واحتمال، على مواجهة السفهاء والضالين من أقوامهم، وأنه سبحانه قد علم كل شيء، وأحصاه عددا، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.هذا وجه من وجوه التأويل لقوله تعالى: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا}.وقيل، إن الرصد الذي يسلكه اللّه سبحانه وتعالى من بين يدى الرسول ومن خلفه، هو الحفظة من الملائكة، القائمين على الوحى المبلغ إلى الرسول، حتى يحفظوه من استراق سمع الشياطين له.وعلى هذا يكون الضمير في قوله تعالى: {ليعلم} عائدا إلى اللّه سبحانه وتعالى، أي ليعلم اللّه أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم على الوجه الذي أوحى إليهم به.وعلم اللّه هنا ليس مقيّدا، ولا معلولا بهذا الرصد الذي يسلكه اللّه بين يدى ما يوحى به إلى رسله ومن خلفهم.. فعلم اللّه سبحانه وتعالى، علم ذاتى، لا يتعلق بأسباب، ولا يتولد عن علل.. وإنما المراد بالعلم هنا، العلم بما وقع من الرسل، فعلا، بعد أن كان هذا العلم واقعا على الأحداث قبل أن تقع.وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} حالان من فاعل: {ليعلم} وهو ضمير عائد على اللّه سبحانه وتعالى: أي ليعلم اللّه سبحانه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته، والحال أنه سبحانه قد أحاط بما لديهم قبل أن يعملوه، وأحصى كل شيء عددا، قبل أن يوجد.واللّه أعلم.
|